| ||||
---|---|---|---|---|
الدين | الإسلام | |||
الزعيم | أبو الحسن الأشعري | |||
من أعلامها | فخر الدين الرازي · الجويني · العز بن عبد السلام · البيهقي | |||
المؤسس | أبو الحسن الأشعري | |||
الأركان | إثبات عقيدة السلف بحجج كلامية استخدام العقل في توضيح النقل |
|||
الأصل | أهل السنة والجماعة | |||
العقائد الدينية القريبة | ماتريدية · صوفية · أثرية | |||
الامتداد | شمال إفريقيا وسط وجنوب شرق آسيا مختلف مناطق العالم الإسلامي |
|||
تعديل مصدري - تعديل |
الأشعرية نسبة إلى إمامها ومؤسسها أبي الحسن الأشعري، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي موسى الأشعري، هي مدرسة إسلامية سنية، اتبع منهاجها في العقيدة عدد من العلماء أمثال: البيهقي والباقلاني والقشيري والجويني والغزالي والفخر الرازي والنووي والسيوطي والعز بن عبد السلام والتقي السبكي وابن عساكر وغيرهم.[1][2]
الأشعري والماتريدي قد تبنّوا منهجاً مماثلاً وطبّقوه، وشكّلوا مدرسة كلامية سنية.[3][4]
والأشاعرة هم جماعة من أهل السنة، لا يخالفون إجماع الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد)، ولا يكفرون أحداً من أهل القبلة، ويعتبر أتباعها أنفسهم منهجاً بين دعاة العقل المطلق وبين الجامدين عند حدود النص وظاهره، رغم أنهم قدموا النص على العقل، إلا أنهم جعلوا العقل مدخلاً في فهم النص، كما أشارت إليه الآيات الكثيرة التي حثت على التفكير والتدبر.[5] وهم الذين وقفوا في وجه المعتزلة، فزيفوا أقوالهم، وأبطلوا شبههم، وأعادوا الحق إلى نصابه على طريق سلف الأمة ومنهجهم. وإلإمام الأشعري لم يؤسس في الإسلام مذهباً جديداً في العقيدة، يخالف مذهب السلف، وإنما هداه الله إلى مذهب أهل السنة بعد أن كان على مذهب الاعتزال، عرف من خلالها حقيقة مذهبهم، وتمرس بفنونهم وأساليبهم في الجدال والنقاش والنظر، مما مكّنه من الرد عليهم وإبطال شبههم. فوجد فيه أهل السنة ضالتهم التي طالما بحثوا عنها فاتبعوه، وساروا على نهجه، لما رأوا فيه من القدرة على إفحام خصومهم والدفاع عنهم وتثبيت مذاهبهم. وعقيدة الإمام الأشعري التي سار عليها هي عقيدة الأئمة أحمد بن حنبل والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابه، وهي عقيدة السلف الصالح، كما نص على ذلك أئمة أهل العلم ممن سار على هذه العقيدة.[6]
بهذا مثّل ظهور الأشاعرة نقطة تحول في تاريخ أهل السنة والجماعة التي تدعمت بنيتها العقدية بالأساليب الكلامية كالمنطق والقياس. وإلى جانب نصوص الكتاب والسنّة، فإن الأشاعرة استخدموا الدليل العقلي في عدد من الحالات في توضيح بعض مسائل العقيدة، ويقول أبو الحسن الندوي في الاختلاف الكامل بين الأشاعرة والمعتزلة من جهة، وعدم مطابقتهم تمامًا لبعض أهل الحديث والحنابلة واختلافهم معهم في جزئيات منهجية عدّة من جهة أخرى: «وكان الأشعري مؤمنًا بأن مصدر العقيدة هو الوحي والنبوة المحمدية.. وما ثبت عن الصحابة..وهذا مفترق الطريق بينه وبين المعتزلة، فإنه يتجه في ذلك اتجاهًا معارضًا لاتجاه المعتزلة، ولكنه رغم ذلك يعتقد.. أن الدفاع عن العقيدة السليمة، وغرسها في قلوب الجيل الإسلامي الجديد، يحتاج إلى التحدث بلغة العصر العلمية السائدة واستعمال المصطلحات العلمية ومناقشة المعارضين على أسلوبهم العقلي، ولم يكن يسوغ ذلك فقط، بل يعدّه أفضل الجهاد وأعظم القربات في ذلك العصر».[7]
جزء من سلسلة مقالات حول |
أهل السنة والجماعة |
---|
بوابة إسلام |
يُرجع المؤرخون الأشاعرة نشأة المدرسة الأشعرية إلى مواجهة المعتزلة على يد أبي الحسن الأشعري الذي يعد أبرز متكلمي أهل الحديث، حيث أن أبا الحسن الأشعري كان معتزليا يأخذ المذهب عن الجبّائي، وما لبث أن عارض شيخه ورجع إلى مذهب أئمة السلف ومنهم أبو حنيفة النعمان والشافعي وغيرهما من أهل الحديث، وسبقه عبد الله بن كلاّب وأبي العباس القلانسي، والحارث بن أسد المحاسبي. في الانتصار بالأساليب الكلامية لعقائد السلف أهل السنة، خصوصا في المسائل المتعلقة بخلق القرآن والقضاء والقدر.[8]
وذكر ابن عساكر أن أبا الحسن الأشعري اعتزل الناسَ مدة خمسة عشر يوما، وتفرغ في بيته للبحث والمطالعة، ثم خرج إلى الناس في المسجد الجامع، وأخبرهم أنه انخلع مما كان يعتقده المعتزلة، كما ينخلع من ثوبه، ثم خلع ثوبا كان عليه ورمى بكتبه الجديدة للناس.[9] فكسب بذلك تأييد العديد من الناس، وكثر أنصاره ومؤيدوه من حكام وعلماء، ولقّبه بعض أهل عصره بإمام السنة والجماعة.
كان السبب المباشر لانطلاقة الأشعري نحو تجديد منهج العقيدة عند أهل السنة هو مواجهة المعتزلة، ولعل هذا الهدف قد تحقق سريعاً كنتيجة لالتفاف العلماء حول الأشعري بعد أن ضاقوا بالمعتزلة، إلا أن منهج الأشعري لم يبق جامداً بل تطور، وإن كان على القاعدة نفسها التي وضعها المؤسس مع بعض التباين في تطبيقات هذه القاعدة القائمة على جعل العقل خادماً للنصوص وعدم اتخاذه حاكماً عليها ليؤوّلها أو يمضي ظاهرها كما هو الحال عند المعتزلة، وقابلية المنهج للتطور كان محصوراً في الجانب العقلي ومنسجماً مع المرونة التي اتبعها المؤسس لجهة استعمال العقل كخادم لا كحاكم، وفيما يلي بعض لمحات تطور المنهج وصور التباين في تطبيق منهج الأشعري:
في المشرق، وبعد أن واجه أبو الحسن الأشعري المعتزلة، أحاط به علماء السنّة واعتبروه إمامهم، لأنه وضع حداً لهيمنة المعتزلة، وأظهر عقائد أهل السنة على مخالفيهم بحجج وأسلوب كانا كفيلين بأن يعيد لأهل السنّة حضورهم بعد أن نازعهم المعتزلة، وفي عهد دولة السلاجقة وبالتحديد في عهد الوزير نظام الملك الذي اهتم ببناء المدارس وربط المساجد ببعضها والذي كان يرفع من شأن العلماء، زاد انتشار مذهب الأشعري، وقد تم تدريس المنهج الأشعري في مدرسة بغداد النظامية، ومدرسة نيسابور النظامية، وكانت المدرسة النظامية في بغداد أكبر جامعة إسلامية في العالم الإسلامي وقتها.[11] فلم تأت الحروب الصليبية إلا وكان المذهب الأشعري قد ساد المشرق بشكل غير مسبوق، فلما قضى السلطان صلاح الدين على دولة الفاطميين في مصر قام بتحويل الأزهر الذي كان على مذهب الإسماعيلية المفروض من الفاطميين إلى مذهب أهل السنة والجماعة على منهج الأشاعرة في العقيدة والذي كان سائداً ومنتشراً في ذلك الوقت.[12]
أما في بلاد المغرب العربي فإن يوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين كان وطيد الصلة مع علماء الأشاعرة فكان ابن رشد الجد (الملقب بشيخ المالكية) -وهو من الأشاعرة- قاضي القضاة زمن المرابطين،[13] وأبو عمران الفاسي الذي يعد العقل المدبر لتأسيس دولة المرابطين.[14] ودانت للسنة على مذهب الأشعرية في الأصول أهل البسيطة من المسلمين إلى أقصى بلاد أفريقية، وقد بعث ابن الباقلاني في جملة من بعث من أصحابه إلى البلاد: أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام ثم إلى القيروان وبلاد المغرب، فدان له أهل العلم من أئمة المغاربة وانتشر المذهب إلى صقلية والأندلس، ولابن أبي زيد وأبي عمران الفاسي وأبي الحسن القابسي وأبي الوليد بن الباجي وتلامذتهم أياد بيضاء في نشر مذهب الإمام أبي الحسن في تلك البلاد.[15][16] كما أن أبا بكر ابن العربي وهو من أهم علماء المالكية وممن كان يعتمد عليهم ابن تاشفين كان من تلاميذ الغزالي،[17] الذي كان أهم علماء المشرق في ذاك العصر ومن المعلوم أن الغزالي من كبار علماء الأشاعرة، ويوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين، عندما عزم على الدخول إلى الأندلس قام باستشارة أبو حامد الغزالي[18] أحد أهم أئمة الأشاعرة.[19]
بينما يرى بعض السلفيين أن المغرب الإسلامي ظل على معتقد أهل الحديث وفق رؤية جماعة السلفية حتى زمن دولة المرابطين الذين أظهروا هذا المعتقد وحاربوا الفرق والعقائد الكلامية، وأمروا بكتب الغزالي فأحرقت. ثم خرج عليهم محمد بن تومرت داعياً إلى المعتقد الأشعري، فكان هو من قام بإدخال المنهج الأشعري إلى المغرب العربي، وكفر المرابطين بدعوى أنهم مجسمة ومشبهة، وسمى أتباعه بالموحدين تعريضاً بهم، واستباح بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم حتى قضى أتباعه من بعده على دولةالمرابطين، وأسسوا الدولة الموحدية على أنقاضها متبنين منهج الأشاعرة.[20] وظل المعتقد الأشعري هو السائد عندهم حتى يومنا هذا. بينما يرى المؤرخون الأشاعرة أن الصراع بين المرابطين والموحدين كان سياسيًا قبليًا، ولم يكن مذهبيًا، فبالإضافة إلى أنهم يرون أن مؤسسي دولة المرابطين هم أشاعرة، فإنهم يرون أن ابن تومرت لم يسع إلى إقامة دولته من أجل العقيدة الأشعرية، وأنه لا يمكن الإشارة إليه كممثل للأشاعرة، بل إن تومرت كان هدفه سياسي بامتياز وكان يرمي إلى الاستيلاء على ملك المغرب.[21] وهذا لا ينفي أن تدريس المنهج الأشعري قد ازدهر بعد سقوط دولة المرابطين، فنظراً إلى أن المغرب الإسلامي لم يشهد فرقاً فكرية متنوعة كالتي شهدها المشرق فإن هذا جعل أهل المغرب يعتنون بفروع الدين وبالأخص الفقه دون الأصول كالعقيدة وذلك لعدم وجود تنازع كالذي حصل في المشرق بين الأشاعرة وبقية أهل الحديث من جهة والمعتزلة من جهة أخرى.[22][23]
بعد أن استقر المغرب وانطفأت فيه الفتن، بدأت حواضر علمية عدة في تبنّي منهجية تعليمية تنافس نظيراتها في المشرق خاصة في تدريس عقيدة أهل السنة والجماعة وفق منهج الأشاعرة، وأبرز هذه الحواضر هي: الجامع الأزهر في مصر، وجامع القرويين في المغرب، وجامع الزيتونة في تونس، والمسجد الأموي في دمشق، وندوة العلماء ودار العلوم ديوبند في الهند، وغيرها من منارات العلوم المبثوثة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كلها كانت تتبنى إما مذهب الأشاعرة أو الماتريدية، ومن قبلها المدارس الإسلامية التي قامت في حواضر الإسلام قديماً، مثل المدارس النظامية نسبة للوزير نظام الملك، وهي كثيرة، حتى قيل بأنه لا تخلو مدينة من مدن العراق وخراسان من أحدها، وهي من أهم الأسباب في انتشار المذهب السني، ومن أشهرها المدرسة النظامية ببغداد التي كانت أكبر جامعة في الدنيا يومئذ (كما وصفها الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي) ولي مشيختها الإمام أبو إسحاق الشيرازي، والإمام الغزالي، ونظامية نيسابور التي ولي مشيختها الإمام الجويني وبعده الإمام الغزالي أيضاً، ومن تلك الصروح العلمية التي كان لها أكبر الأثر في التاريخ الإسلامي مدرسة دار الحديث الأشرفية التي كان شرط واقفها أن لا يلي مشيختها إلا أشعري (ذكر ذلك الإمام تاج الدين السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى)، وكان أول من استلم مشيختها الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، ثم تعاقب الأئمة بعده، فمنهم الإمام الحافظ يحيى بن شرف النووي والحافظ جمال الدين المزي والحافظ تقي الدين السبكي والحافظ ابن كثير وغيرهم، والذين تخرجوا فيها من العلماء لا يُحصَوْن، وهكذا استمرّت هذه المدرسة بإخراج العلماء والأئمة والحفاظ والفقهاء والمقرئين قروناً طويلة.[24]
الأشعرية مدرسة سنية، تكاد تكون مطابقة لعقائد المدارس الأخرى المنتسبة للسنة كالماتردية إلا في مسائل قليلة بسبب اختلاف منهج التلقي والاستدلال. واتبع علماء أشاعرة منهجًا كلاميًا في حالات عدة.
استدل الأشعري على العقائد بالنقل والعقل، فيثبت ما ورد في الكتاب والسنة من أوصاف الله والاعتقاد برسله واليوم الآخر والملائكة والحساب والعقاب والثواب، يستدل بالأدلة العقلية والبراهين المنطقية على صدق ما جاء في الكتاب والسنة بعد أن أوجب التصديق بها كما هي نقلاً، فهو لا يتخذ من العقل حَكَما على النصوص ليؤولها أو يمضي ظاهرها، بل يتخذ العقل خادما لظواهر النصوص يؤيدها.[10] وقد استعان في سبيل ذلك بقضايا فلسفية ومسائل عقلية خاض فيها الفلاسفة وسلكها المناطقة، والسبب في سلوكه ذلك المسلك العقلي:
قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: «... الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري، شيخ طريقة أهل السنة والجماعة، وإمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، والذَّاب عن الدين، والساعي في حفظ عقائد المسلمين؛ سعيا يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين. إمام حبر، وتقي بر، حمَى جناب الشرع من الحديث المفترَى، وقام في نصرة ملة الإسلام فنصرها نصرا مؤزَّرا،
وما برح يدلج ويسير، وينهض بساعد التشمير حتى نقَّى الصدور من الشبه، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ووقَى بأنوار اليقين من الوقوع في ورطات ما التبس، وقال فلم يترك مقالاً لقائل، وأزاح الأباطيل والحقُّ يدفع ترهات الباطل. ... وأخذ في نُصرة الأحاديث في الرُّؤية والشَّفاعة والنَّظر وغير ذلك، وكان يفتح عليه من المباحث والبراهين بما لم يسمعه من شيخ قط، ولا اعترضه به خصم، ولا رآه في كتاب. قال الحسين بن محمد العسكرى: (كان الأشعري تلميذاً للجبائي، وكان صاحب نظر وذا إقدام على الخصوم، وكان الجبائي صاحب تصنيف وقلم، إلا أنه لم يكن قوياً في المناظرة، فكان إذا عرضت مناظرة قال للأشعري: نب عني). ... واعلم أنا لو أردنا استيعاب مناقب الشيخ لضاقت بنا الأوراق وكلت الأقلام، ومن أراد معرفة قدره، وأن يمتلئ قلبه من حبه، فعليه بكتاب«تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري» الذي صنفه «الحافظ ابن عساكر»، وهو من أجل الكتب وأعظمها فائدة وأحسنها. ... وقد زعم بعض الناس أن الشيخ كان مالكي المذهب، وليس ذلك بصحيح، إنما كان شافعيا، تفقَّه على أبي إسحاق المروزي، نصَّ على ذلك الأستاذ أبو بكر بن فورك في طبقات المتكلمين والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني فيما نقله عنه الشيخ أبو محمد الجويني في شرح الرسالة. ... اعلم أن أبا الحسن لم يبدع رأياً ولم ينشئ مذهباً، وإنما هو مقرِّرٌ لمذاهب السَّلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقاً وتمسَّكَ به، وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدِي به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمَّى أشعرياً، ولقد قلت مرة للشيخ الإمام رحمه الله: أنا أعجب من الحافظ ابن عساكر في عَدِّهِ طوائفَ من أتباع الشيخ ولم يذكر إلا نزراً يسيراً وعدداً قليلاً، ولو وفَّى الاستيعاب حقَّه لاستوعَب غالبَ علماء المذاهب الأربعة، فإنهم برأي أبي الحسن يدينون الله تعالى، فقال إنما ذكَر من اشتهر بالمناضلة عن أبي الحسن، وإلاَّ فالأمر على ما ذكرت من أن غالب علماء المذاهب معه. وقد ذكر سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة، ووافقه على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في زمانه: أبو عمرو بن الحاجب، وشيخ الحنفية: جمال الدين الحضيري. ... وقد ذكر غير واحد من الأثبات أن الشيخ كان يأخذ مذهب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي، وأبو إسحاق المروزي يأخذ عنه علم الكلام، ولذلك كان يجلس في حلقته.
ثم قال في موضع آخر: ...قال الإمام المايُرْقي المالكي: (ولم يكن أبو الحسن أوَّلَ متكلم بلسان أهل السنة، إنما جرى على سنن غيره، وعلى نصرة مذهب معروف، فزاد المذهب حجَّة وبياناً، ولم يبتدِع مقالة اخترعها، ولا مذهبا انفرَد به، ألا ترَى أن مذهب أهل المدينة نُسِب إلى مالك، ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكي، ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله وكان كثير الإتباع لهم، إلا أنه لمَّا زاد المذهب بياناً وبسطاً عُزِي إليه، كذلك أبو الحسن الأشعري لا فرق، ليس له في مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وتواليفه في نصرته).
... ثم ذكر المايُرْقي رسالة الشيخ أبي الحسن القابسي المالكي التي يقول فيها: (واعلموا أن أبا الحسن الأشعري لم يأت من علم الكلام إلاَّ ما أراد به إيضاح السنن والتثبت عليها) إلى أن يقول القابسي: (وما أبو الحسن إلا واحد من جملة القائمين في نصرة الحق ما سمعنا من أهل الإنصاف من يؤخره عن رتبة ذلك ولا من يؤثر عليه في عصره غيره ومن بعده من أهل الحق سلكوا سبيله)...[25]
وقال العلامة ابن السبكي أيضًا في «معيد النعم ومبيد النقم» [ص75، ط. الخانجي]: «وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة -ولله الحمد- في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية؛ لحقوا بأهل الاعتزال، ورعاع من الحنابلة؛ لحقوا بأهل التجسيم، وبرأ الله المالكية؛ فلم نر مالكيًّا إلا أشعريًّا عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة».
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي: «وأبو الحسن الأشعري إمام أهل السنة، وعامة أصحاب الشافعي على مذهبه، ومذهبه مذهب أهل الحق».[26]
وقد ذكر شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أن عقيدة الأشعري اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة، ووافقه على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في زمانه: أبو عمرو بن الحاجب، وشيخ الحنفية جمال الدين الحصيري.[27]
وقد كان العز بن عبد السلام على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري في الاعتقاد، وقد أبان ذلك في عقيدته المسماة «ملحة الاعتقاد» التي أرسلها إلى الملك الأشرف حينما وقع الخلاف بينهما في مسألة كلام الله تعالى. وقد ذكرها ابن السبكي في طبقاته في ترجمة العز نقلا عن ولده الشيخ عبد اللطيف. وهي كالآتي: قال في أولها: "الحمد لله ذي العزة والجلال، والقدرة والكمال، والإنعام والإفضال الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مُقَدَّر، ولا يُشبه شيئا، ولا يُشْبهه شيء، ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات، كان قبل أن كوَّن المكان، ودبَّر الزمان، وهو الآن على ما عليه كان، خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، فكل نعمة منه فهي فضل، وكل نقمة منه فهي عدل ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ٢٣﴾ [الأنبياء:23]، استوى على العرش المجيد على الوجه الذي قال، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسّة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، فتعالى الله الكبير المتعال عما يقوله أهل الغي والضلال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محملون بلطف قدرته، مقهورون في قبضته، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، مطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر، حي مريد سميع بصير قدير، متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت".[28] ويرد على من ذهب إلى أن الله متكلم بصوت وحرف بقوله: "ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادا في الألواح والأوراق، شكلا ترمقه العيون والأحداق، كما زعم أهل الحشو والنفاق، بل الكتابة من أفعال العباد، ولا يتصور في أفعالهم أن تكون قديمة، ويجب احترامها لدلالتها على كلامه، كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته، وحق لما دل عليه وانتسب إليه أن يعتقد عظمته وترعى حرمته، ولذلك يجب احترام الكعبة والأنبياء والعباد والصلحاء؛
ولمثل ذلك يقبل الحجر الأسود، ويحرم على المحدث أن يمس المصحف، أسطره وحواشيه التي لا كتابة فيها، وجلده التي هو فيها، فويل لمن زعم أن كلام الله القديم شيء من ألفاظ العباد، أو رسم من أشكال المداد".[29] ثم قال بعد ذلك: «واعتقاد الأشعري – رحمه الله – مشتمل على ما دلت عليه أسماء الله التسعة والتسعون، التي سمى بها نفسه في كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماؤه مندرجة في أربع كلمات، هن الباقيات الصالحات»...إلخ. ثم بعد أن فصل الكلام عن الباقيات الصالحات قال: «فهذا إجمال من اعتقاد الأشعري –رحمه الله– واعتقاد السلف، وأهل الطريقة والحقيقة نسبته إلى التفصيل الواضح كنسبة القطرة إلى البحر الطافح».
الاستدلال عند الأشاعرة يكون بالأدلة النقلية (نصوص الكتاب والسنة) وبالأدلة العقلية على وجه التعاضد فالأدلة النقلية والعقلية عندهم يؤيد كل منهما الآخر، فهم يرون أن النقل الثابت الصريح والعقل الصحيح لا يتعارضان. والأشاعرة عندما يوجّهون خطابهم إلى مخالفيهم الذين لا يقيمون وزنا للكتاب والسنة، فإنهم يقدمون الأدلة العقلية على النقلية وذلك يكون فقط في مجال الاستدلال في العقائد في باب العقليات، لأنهم يرون أن المراد هو الرد على المخالفين، كالدهريين والثنوية وأهل التثليث والمجسمة والمشركين ونحوهم، فهؤلاء المخالفين لا يرون حجية للقرآن والسنة، إلا بعد إقامة الأدلة العقلية على الإيمان بالله وأن القرآن كلام الله وأن محمد بن عبد الله هو رسول الله. فمصدر التلقي عند الأشاعرة ليس هو العقل فقط، بل هو الخبر الصادق والعقل. قال الغزالي في الرسالة اللدنية: «وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالى من القرآن، ثم بأخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية».[30]
لا يرى الأشاعرة ضرورة أن يتعلّم المسلمون علم الكلام، خاصةً إن لم تكن هناك فرق مخالفة يحتاج الرد عليها استخدام علم الكلام، وهذا ما كان عليه سلف الأمة من صحابة وتابعين، حيث لم تظهر في عصرهم فرق وآراء مخالفة لأهل السنة والجماعة مثل المعتزلة، فكان السلف يحذرون من استخدام علم الكلام لغياب الضرورة الداعية إلى ذلك، وهذا بحسب فهم الأشاعرة، ولكن بعد أن بدأت تظهر فرق تروّج لآراء تشكك في العقيدة الإسلامية بشكل عام وفي وجود الله وفي عقيدة أهل السنة والجماعة بشكل خاص، رأى عدد من العلماء ضرورة استخدام علم الكلام لتفنيد هذه الآراء المشككة، وعدم السكوت عنها مخافة أن يسبب عدم الرد على المخالفين فتنة للمسلمين فينجر بعض العوام وراء آراء المشككين، ومن هنا ذهب العديد من الأشاعرة إلى القول بأن تعلّم علم الكلام مطلوب فقط «ممن يغلب عليه الشك ليذهب شكه بما يقرؤه من حجج، أو من يريد أن يدافع عن الإسلام بالحجج الباهرة أو يدل إنسانًا ضلّ سبيله في هذه الحياة، مغترًا ببعض الأقوال التي هي ضد الأديان، فلا بد من إنسان يتفرغ للرد على المشككين الذين يشككون الناس في عقائدهم بالرد عليهم بالأدلة المبطلة لأقوالهم، ويستعمل هذا العلم على قدر الحاجة. وأما المطلوب من عامة الناس فهو القيام على العقائد الحقة الصحيحة ومعرفتها على سبيل الإجمال، أما التوسع في معرفة أدلة الاعتقاد فليس مطلوبًا من كل الناس» [31]، وذهب أبو إسحاق الإسفراييني إلى إيقاف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام، وهذا الرأي لاقى معارضة شديدة من أكثر أئمة الأشاعرة وفي مقدمتهم أبو حامد الغزالي، حيث اعتبر الغزالي أن موقف الإسفراييني يقود إلى تكفير عوام المسلمين الذين لم يعرفوا العقائد بالأدلة الكلامية، وبذا اتجه القول السائد عند الأشاعرة إلى عدم تكليف العوام باعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك مشقة كبيرة[32]، واختار بعض الأشاعرة عدم الخوض في علم الكلام والتعامل مع النصوص المتشابهة بالتفويض مع التنزيه، ومن هنا تكوّن عند الأشاعرة قولان مشهوران في إثبات الصفات، وهما التفويض مع التنزيه أو التأويل، وهي عندهم مسألة اجتهادية، فهناك من الأشاعرة من كان يختار التأويل ثم رجّح التفويض مع التنزيه ومن أهمهم أبو المعالي الجويني، وقد علّق تاج الدين السبكي على اختيار الجويني للتفويض وترجيحه على التأويل في الرسالة النظامية، بأن قال: «ولا إنكار في هذا، ولا في مقابله، فإنها مسألة اجتهادية، أعني التأويل أو التفويض مع التنزيه، إنما المصيبة الكبرى والداهية الدهياء الإمرار على الظاهر، والاعتقاد أنه المراد، وأنه لا يستحيل على الباري، فذلك قول المجسمة عبّاد الوثن، الذين في قلوبهم زيغ يحملهم على اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة..»[33]، ويرى الأشاعرة أن التفويض هو تأويل أيضًا، لكنه تأويل إجمالي، لأن التفويض يصرف النص الموهم عن ظاهره المحال لله، لذا فإن الأشاعرة يرون أن القائلين بالتفويض والقائلين بالتأويل قد اجتمعوا على سبيل واحد، وهو التنزيه عن التشبيه[34]، ويرى ابن رشد أن الاستدلال بعلم الكلام هو مستحب فقط، وانتهى شيخ جامع الزيتونة ابن عرفة إلى أن القول السائد عند الأشاعرة هو أن الاستدلال بعلم الكلام فرض كفاية، بحيث أن يكون في كل بلد يصعب الوصول منه إلى غيره من له معرفة بعلم الكلام في حق بعض المتأهلين من ذوي الأذهان السليمة.[35]
على الرغم من وجود حالات عديدة تذكر أن السلف من صحابة وتابعين ومن تبعهم قد قاموا بتأويل عدد من النصوص المتشابهة تأويلاً تفصيليًا، إلا أن الأشاعرة يرون أن السمة الغالبة في طريقة التعامل مع النصوص المتشابهة في فترة السلف كانت بطريق التفويض مع التنزيه، وهو ما يعده الأشاعرة تأويلا إجماليًا، حيث أنه وبحسب ما يعتقد الأشاعرة، فإن السلف أثناء التفويض يصرفون معنى النص الموهم للتشبيه عن ظاهره، وهذا يتفق مع التأويل التفصيلي الذي كان السمة الغالبة عند علماء الخلف دون أن ينفي ذلك وجود من اتبع من علماء الخلف طريقة التفويض مع التنزيه،[36] ويبرز الاختلاف بين التأويلين في أن التفويض (التأويل الإجمالي) لا يحدد معنىً معينًا، بل يكتفي بعدم الإقرار بظاهر النص المتشابه الذي يستحيل على الله، ويفوضون المعنى المراد من النص إلى الله، أما التأويل التفصيلي فيزيد على التفويض بأنه حدد معنىً للنص المتشابه بعد أن نفى ظاهره المستحيل على الله، وهذا المعنى المأوّل إليه يكون جائزًا في حق الله وينفي عنه التشبيه الذي توهمه البعض من ظاهر النص،[37] ويكون هذا التأويل التفصيلي متماشيًا مع لسان العرب وما تحمله اللغة العربية من معان، وقد ذكر العز بن عبد السلام هذا القول في شرح المشكاة، حيث أوضح «أن السلف والخلف متفقان على التأويل، وأن الخلاف بينهما لفظي لإجماعهم على صرف اللفظ عن ظاهره ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى الله في المعنى المراد من اللفظ الذي هو غير ظاهره المنزه عنه تعالى، وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين.. ولو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمانهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك، وقد جاء التأويل التفصيلي عن السلف في بعض المواضع، وجاء عن كثير من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين.. وهذا مما يبين تقاربهما وعدم اختلافهما حقيقة».[38] وهناك عبارة مشهورة عند الأشاعرة وهي: «طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم»، وذلك للدلالة على غرض كلا الطريقتين، فطريقة السلف - وهي كانت في الغالب التفويض - أسلم، لأنها لا تقوم بتحديد أي معنىً للنص المتشابه، وفوّضت المعنى إلى الله، وبذلك اختار السلف السلامة من الخطأ، أما طريقة الخلف أعلم وأحكم، لأنها تحتوي على حجج وبراهين علمية ترد بطريقة محكمة على المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة، وقد حددت الطريقة التي غلبت في زمن الخلف وهي التأويل التفصيلي، معنىً محددًا للنص المتشابه، وذلك من باب قطع الطريق على المخالفين، إلا أن العلماء الذين قاموا باستخدام آلية التأويل التفصيلي لا يقدمون تأويلهم على أنه المعنى المراد من النص بشكل جازم، ومن هنا يأتي معنى آخر لمعنى السلامة في طريقة السلف، وكافة الأشاعرة سلفًا وخلفًا يرجحون طريقة التفويض ويرونها أصوب، حتى الذين يستخدمون آلية التأويل التفصيلي، ويرون أنه لولا لزوم إبراز الحجة في وجه المخالف لكان الأسلم تفويض المعنى المراد إلى الله، إلا أنه وسعيًا لعدم ترك المجال للمشككين في عقيدة الإسلام بشكل عام وعقيدة أهل السنة بشكل خاص، فإنه قد اختار العلماء حين توجيه خطابهم للمخالفين استخدام التأويل التفصيلي للنصوص المتشابهة، وكذلك عندما يكون المعنى المأوّل إليه متماشيًا مع لسان العرب، خاصةً وأن هناك حالات عدة قام فيها السلف بالتأويل التفصيلي دفعًا لأي معنىً لا يليق في حق الله.
يتمسك الأشاعرة بظاهر ما يدل عليه اللفظ ويجيزون صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح لدليل يقترن باللفظ فيصرفه عن ظاهره، وهذا الدليل يسمى عندهم (قرينة) ومن أمثلة ذلك عندهم الآية القرآنية: (نسوا الله فنسيهم) من سورة التوبة، فتأتي كلمة النسيان في كلام العرب بمعنى الآفة وذهاب العلم، وتأتي بمعنى الترك واستعمالها بالمعنى الأول أكثر ولذا كان هو (الظاهر الراجح) من كلمة النسيان بصفة عامة وكان الثاني وهو الترك هو (الاحتمال المرجوح) لذا فإنه يتعيّن العدول عن تفسير النسيان في الآية عن الظاهر الراجح وهو الآفة وذهاب العلم إلى الاحتمال المرجوح وهو الترك، والقرينة الصارفة عن المعنى الأول هو استحالة (الآفة وذهاب العلم) على الله.
وأما صرف اللفظ عن ظاهره لغير دليل فلا يجوز، فالخروج عن ظاهر اللفظ إنما يصح عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع، وهو ما يطلقون عليه (التأويل الصحيح)، أما الخروج عن ظاهر اللفظ لما يظنه المرء دليلاً دون أن يكون في حقيقة الأمر دليلاً فهو (التأويل الفاسد)، وأما الخروج عن ظاهر اللفظ لا لدليل ولا لشبهة دليل فإن الأشاعرة يعتبرونه لعباً وليس من التأويل في شيء وهو ما يطلق عليه ((تحريف الكلام عن مواضعه))
فذهب الأشاعرة في التعامل مع الآيات المتشابهة إلى (التأويل الصحيح) للّفظ المتشابه، أي بصرفه عن المعنى الظاهر المباشر إلى معان أخرى، ويستعان على هذا بالقرائن المتعددة، وبعرف الاستعمال والعادة، لأنهم يرون أن التعويل في الحكم والاستنباط على قصد المتكلم ومراده [39]، ومراده يظهر أحيانا من اللفظ نفسه، وأحيانا من العلامات والقرائن المصاحبة، فمراد المتكلم من قوله: رأيت أسدا، غير مراده من قوله: رأيت أسدا يخطب على المنبر، ففي الأولى يقصد الحيوان المفترس بدلالة لفظ الأسد، وفي الثاني يقصد الرجل الشجاع بدلالة القرينة (يخطب على المنبر).
وبالتالي فإنهم يرون أنه من عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب -عليه-اتباع مراده، فالألفاظ عندهم لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق، فإنه يجب العمل بمقتضاه سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة مطردة.[39]
وضّح الكثير من العلماء الضرورة الدافعة إلى التأويل، وفيما يلي عرض لجانب من أقوال بعض العلماء بهذا الخصوص:[40][41]
الأشاعرة يتبعون السلف باتخاذهم لمذهب التأويل في التعامل مع النصوص المتشابهة وقد أشار إلى ذلك شهاب الدين الآلوسي بقوله: «والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف».[65] وقال الإمام عز الدين الرسعني الحنبلي في كتابه (رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز): «قاعدة مذهب إمامنا في هذا الباب -أي آيات الصفات-: اتباع السلف الصالح؛ فما تأولوه تأولناه، وما سكتوا عنه سكتنا عنه، مفوضين علمه إلى قائله، منزهين الله عما لا يليق بجلاله».[66]
وفيما يلي بعض الأمثلة التي يستشهد بها الأشاعرة على تأويل السلف للنصوص المتشابهة:[67][68][69][70]
قال القزويني بهاء الدين في كتابه سراج العقول : " من نفى صفات الله تعالى، قيل يكفّر لجهله بالله، وقيل إنّ نفاة الصفات من أهل القبلة هم المعتزلة، وكان أبو هاشم منهم، أثبت الصفات غير أنّه فسّرها بالحال التي سمّاها العالميّة والقادريّة، فيلزمه في الحال وتعليقها بالمتعلّقات ما ألزمنا في الصفات الموجودة، فلذلك لا يوجب التكفير، كيف وقد نفى القاضي أبو بكر منها صفة البقاء. أمّا من نفى كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات فقد انعقد الإجماع على تكفيره.[79]
يرى الأشاعرة أن جميع أفعال البشر تقع تحت حكم الله وإرادته، وأن ما يقع في الكون من الخير والشر الذي يكون مصدر الإنسان منهما، كله من عند الله، ولا احتمال عند أهل السنة الأشاعرة لتعارض إرادة الإنسان مع إرادة الله، ولا تعارض فيما فشل من إرادته مع إرادة الله، وإنما أراد الله من الإنسان الإرادة والفشل معًا[83]، وأنه لاشيء في الكون خارج إحاطة إرادة الله، وأن إرادة الله شاملة شمولاً لا تخرج عنه أفعال البشر الاختيارية، ولا إرادتهم الجزئية، ويستدلون على ذلك بالآية القرآنية من سورة الإنسان: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان:30].[84]
وبالنظر إلى أن البشر يفعلون ما يفعلون باختيارهم، فهم مختارون، وبالنظر إلى أنهم لا يختارون إلاّ ما أراد الله أن يختاروه، فهم «مجبورون أو كأنهم مجبورون»[85]، فالإنسان يفعل ما يشاء، ولا يشاء الإ ما شاء الله أن يشاءه، فهو - أي الإنسان - يفعل ما يشاء الله وما يشاء هو نفسه معًا، فهناك تفويض للإنسان لأنه يفعل ما يشاء، وهناك جبر أو ما يشبهه، لأنه لا يفعل غير ما يشاء الله، وجمع الجبر مع التفويض والتسيير مع التخيير هي عند الأشاعرة من خواص قدرة الله، فإن عُـدّ الإنسان بموقفه هذا مجبورًا في أفعاله، فهو مجبور لكنه مجبور غير معذور، ويقوم مذهب الأشاعرة في هذا الأمر على جملة من الاستدلالات، منها الآية القرآنية من سورة النحل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٩٣﴾ [النحل:93].[86]
ويفترق مذهب الأشاعرة عن مذهب الجبرية في هذه المسألة، في أن الجبرية لا قدرة ولا إرادة ولا فعل عندهم للإنسان، أما الأشاعرة فهم يرون أن للإنسان قدرة لكن لا تأثير لهذه القدرة في جنب قدرة الله، وله أفعال لكن الله هو من خلقها، وله إرادة تستند أفعاله إليها، لذا يعدّ الإنسان عند الأشاعرة مختارًا في أفعاله، ويكفي عندهم تسمية أفعاله «أفعالاً اختيارية» استناد تلك الأفعال إلى إرادته واختياره، وهذه الإرادة والاختيار عند الأشاعرة هي من الله، لذا فإن الأشاعرة يرون بأن مذهبهم مختلف جدًا عن مذهب الجبر في مسألة أفعال العباد.[87]
ويعتبر الأشاعرة أن هذه المسألة هي مسألة علمية مبنيّة على نصوص القرآن والسنة النبوية وقواعد العقل، ولا يُـسمع الانتقاد فيها إلا بطريق تلك القواعد والنصوص.[88]
يرى الأشاعرة أن كتاب الإبانة للإمام أبو الحسن الأشعري دخل عليه الكثير من الدس والتحريف، كما أن طريقة الكتابة في كثير منه تختلف عن المسلك الذي اتخذه الأشعري في التأليف، فبينما يتمسك معارضو الأشاعرة بالنسخة الرائجة ويرون فيها دليل على عودة الأشعري عن منهج المتكلمين، يجزم الأشاعرة أن النسخة الرائجة محرّفة [89] وفي ذلك يقول العلاّمة الكوثري في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة: «ومن غريب التحريف ما دس في بعض نسخ الإبانة للأشعري كما دس فيها أشياء أخرى»، كما أن النسخة الرائجة توحي بالتجسيم وتتهجم على الإمام أبي حنيفة، وقد طبع كتاب الإبانة طبعة قوبلت على أربع نسخ خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين، وعند المقارنة بين النسخة المتداولة مع طبعة الدكتورة فوقية حسين مع فصلين نقلهما ابن عساكر، تبيّن بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا الكتاب.[90]
يقول الإمام الكوثري في مقدمة كتاب «تبيين كذب المفتري»: «والنسخة المطبوعة في الهند من الإبانة نسخة مصحَّفة محرَّفة تلاعبت بها الأيدي الأثيمة، فيجب إعادة طبعها من أصل موثوق».[91] وقال أيضا: «ومن العزيز جدّاً الظفر بأصل صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة، وطبع كتاب الإبانة لم يكن من أصل وثيق، وفي المقالات المنشورة باسمه وقفة». وهذا أيضا ما ذهب إليه الدكتور عبد الرحمن بدوي مؤيدا للكوثري، فقال: «وقد لاحظ الكوثري بحق أن النسخة المطبوعة في الهند تلاعبت بها الأيدي الأثيمة..». كما لاحظ ذلك غيرهم من الدارسين.[92] وللشيخ وهبي سليمان غاوجي رسالة في هذا الموضوع بعنوان «نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه إلى الإمام أبي الحسن» أتى فيها بأدلة موضوعية تدل على أن قسماً كبيراً مما في الإبانة المتداولة اليوم بين الناس لا يصح نسبته للإمام الأشعري.
ترى السلفية أن الأشاعرة خالفوا أهل السنة؛ بسبب تأويل وتفويض معاني الأسماء والصفات، فهم في باب التأويل والتفويض ليسوا من أهل السنة، لأن أهل السنة – من وجهة نظرهم – لا يؤولون ولا يفوضون المعنى لكنهم من أهل السنة في المسائل التي وافقوهم فيها.[95][96] وقد حصل خلاف كبير بين ابن تيمية (ت 728هـ) وتلميذه ابن القيم (ت 751هـ) وبين علماء الأشاعرة. ومن أبرز مواطن الخلاف بينهم هو موقفهم إزاء آيات الصفات التي توهم التشبيه كصفة اليد والنزول ونحوها، حيث يعتقد ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن هذه الصفات معقولة المعنى ولكنها مجهولة الكيف. وأما الأشاعرة فإنهم يفوضون المعنى إلى الله تعالى ويصرفون اللفظ عن ظاهره. وهذا يسمى منهج التفويض.[97]
لكن السلفية ترى أن منهج الأشاعرة في تأويل بعض الصفات لا يصح وأنه مخالف لمنهج السلف[98][99][100] حيث ترى السلفية أن من قواعِدِ صِفاتِ اللهِ: إثباتُ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه في كتابِه، أو أثبَتَه له رسولُه ﷺ، أو أصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم، مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ.[101] ويستدل السلفية على منهجهم بقول الله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ١١﴾ [الشورى:11]
حيث قال ابن تيمية مستدلا بهذه الآية: «ومذهب السلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين: إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" رد على أهل التشبيه والتمثيل، وقوله: "وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" رد على أهل النفي والتعطيل، فالممثل أعشى، والمعطل أعمى، الممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدمًا.»[102]
ونقل أيضا عن نعيم بن حماد الخزاعي وهو أحد شيوخ الإمام البخاري: «من شبه اللّه بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف اللّه به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف اللّه به نفسه ورسوله تشبيهًا.»[103]
قالَ يَحْيى بنُ أبي الخَيْرِ العِمْرانيُّ، شَيْخُ الشَّافِعيَّةِ في بِلادِ اليَمَنِ: «القُرْآنُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ دَلَّ كلُّ واحِدٍ مِنهما أنَّ القُرْآنَ هو هذه السُّوَرُ والآياتُ دونَ ما تَدَّعي الأَشْعَريَّةُ بعُقولِهم وتَأويلِهم الَّذي يُؤَدِّي إلى خِلافِ ذلك»[104]
قال ابن قدامة: «لم تَزَلْ هذه الأخْبارُ وهذه اللَّفْظةُ مُتَداوَلةً مَنْقولةً بَيْنَ النَّاسِ، لا يُنكِرُها مُنكِرٌ، ولا يَخْتلِفُ فيها أحَدٌ، إلى أن جاءَ الأَشْعَرِيُّ فأَنكَرَها، وخالَفَ الخَلْقَ كلَّهم؛ مُسْلِمَهم وكافِرَهم، ولا تَأثيرَ لقَوْلِه عنْدَ أهْلِ الحَقِّ، ولا تُتْرَكُ الحَقائِقُ وقَوْلُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإجْماعُ الأمَّةِ لقَوْلِ الأَشْعَرِيِّ، إلَّا مَن سَلَبَه اللهُ التَّوْفيقَ، وأَعْمى بَصيرتَه، وأَضَلَّه عن سَواءِ السَّبيلِ»[105]
قال ابن تيمية: «الأشعريَّةُ الأغلَبُ عليهم أنَّهم مُرجِئةٌ في بابِ الأسماءِ والأحكامِ، جبريَّةٌ في بابِ القَدَرِ، وأمَّا في الصِّفاتِ فليسوا جَهميَّةً محْضةً، بل فيهم نوعٌ من التجَهُّمِ، وهم في الجُملةِ أقرَبُ المتكَلِّمينَ إلى مذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ»[106]
قال الذهبي ردا على نفي الأشعرية للعلو: «فأمَّا القولُ الثَّالثُ المتوَلِّدُ أخيرًا من أنَّه تعالى ليس في الأمكنةِ ولا خارِجًا عنها، ولا فوقَ عَرشِه، ولا هو متَّصِلٌ بالخَلقِ ولا بمنفصِلٍ عنهم، ولا ذاتُه المُقدَّسةُ متحيِّزةٌ، ولا بائنةٌ عن مخلوقاتِه، ولا في الجهاتِ ولا خارجًا عن الجهاتِ، فهذا شيءٌ لا يُعقَلُ ولا يُفهَمُ، مع ما فيه من مخالفةِ الآياتِ والأخبارِ، ففِرَّ بدينِك، وإيَّاك وآراءَ المتكلِّمينَ، وآمِنْ باللهِ وما جاء عن اللهِ على مرادِ اللهِ، وفوِّضْ أمرَك إلى اللهِ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ»[107]