صنع المعنى

في علم النفس، يُقصد بعملية صنع المعنى كيفية تفسير الأشخاص، أو فهمهم لأحداث الحياة، والعلاقات، وأنفسهم. يُستخدم المصطلح بشكل واسع في المجالات المتعلقة بعلم النفس الاستشاري، والعلاج النفسي، خاصة مع الأشخاص الذين تعرضوا لمواقف معينة كموت أحد الأقرباء، أو خسارة، ويستخدم المصطلح أيضًا في علم النفس التربوي.[1]

بمعنى أوسع، صنع المعنى هو الهدف الرئيسي من البيولوجيا، والسيميائية، وغيرها من المجالات، ويكون صنع المعنى الاجتماعي هو الهدف الرئيسي للبحث في السيميائية الاجتماعية، والتخصصات الأخرى ذات الصلة بالموضوع.[2]

تاريخيًا

[عدل]
طرح فيكتور فرانكل، وهو طبيب نفسي، وأحد الناجين من محرقة يهود أوروبا، ومؤسس المعالجة المنطقية في الأربعينيات من القرن العشرين كتابه «بحث الإنسان عن المعنى» لعام 1946، وبين من خلاله أن الدافع الرئيسي للإنسان هو اكتشاف المعنى من الحياة، وأصر فرانكل على أنه يمكن اكتشاف المعنى في جميع الظروف، حتى في أكثر التجارب خسارة ومأساة، وقال بأنه قد يشعر الإنسان بالمعنى عبر قيامه بعمل ما، أو تجربة شيء ما له قيمة، أو اختبار المعاناة، وبالرغم من أن فرانكل لم يستخدم مصطلح صنع المعنى إلا أن تركيزه على صنع المعنى أثر كثيرًا على علماء النفس فيما بعد.[3]

نشر كل من نيل بوستمان وتشارلز واينجارتنر، وكلاهما من النقاد التربويين فصلًا بعنوان «صنع المعنى» في كتابهم عام 1969، ووصفوا سبب تفضيلهم لمصطلح صنع المعنى عن أي استعارات أخرى للتعلم والتدريس.[4]

إذ جاء في الكتاب:

«في ضوء كل هذا، قد يفهم القارئ سبب تفضيلنا لمصطلح "صنع المعنى" عن معظم الاستعارات التي قد تخطر بالبال والتي تُستخدم في المدارس، ونشدد على عملية التفكير، بما في ذلك حقيقة أن التفكير يمر بتغير مستمر، كما أن صنع المعنى يركز على فردية واستثنائية صانع المعنى (أي المفكر)، يوجد في معظم الاستعارات الأخرى افتراض التواضع عند جميع المتعلمين، فكل التعلم سيتم بنفس الطريقة، أكانت الحديقة التي يجب زراعتها، والظلمة المضاءة، والأساس الذي يجب البناء عليه، والطين الذي يجب تشكيله، فبالنهاية ستكون الزهور بنفس اللون، وسيكشف الضوء عن نفس الغرفة، والصلصال سيأخذ نفس الشكل، وهكذا، فإن الاستعارات تعني الحدود، والحد يعيق التعلم، فكم عدد الزهور التي تستطيع الحديقة الاحتفاظ بها؟ وكم هو الحجم الذي يمكن أن يملأ دلوًا؟ وماذا يحدث للمتعلم بعد أن يتم تشكيل عقله؟ وكم يبلغ حجم المبنى حتى لو تم بناؤه على أساس متين؟ "فصانع المعنى" لا يوجد لديه مثل هذا القيد أو الحد، ولا يوجد نهاية للعملية التربوية، والمعاني الجديدة تستمر بالوجود.....[5]»

بحلول نهاية السبعينيات من القرن العشرين، استُخدم مصطلح «صنع المعنى» بتواتر متزايد، خاصة في نظرية التعلم البنائية التي تفترض أن المعرفة شيء يخلقه الناس بنشاط عندما يواجهون أشياء جديدة ويدمجون معلومات جديدة مع معرفتهم الحالية، استخدم عالم النفس التنموي روبرت كيجان مصطلح «صنع المعنى» كمفهوم رئيسي في العديد من النصوص المستشهد بها على نطاق واسع حول الاستشارات والتنمية البشرية التي نشرت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات.[6]

كتب كيجان: "المعنى من الوجود البشري هو البحث عن المعنى، والكائنات الحية موجودة لتنتظم كما يقول بيري (1970) و"صنع" كلمة استخدمها علماء النفس متأثرون بنظرية جورج كيلي الشخصية.

في مراجعة لأدب صنع المعنى المنشور في عام 2010، أشار عالم النفس كريستال إل. بارك إلى أن هناك مجموعة غنية من النظريات حول صنع المعنى، لكن الأبحاث التجريبية لم تواكب التطور النظري. في عام 2014، عقد المؤتمر الأول حول بناء المعنى الشخصي كجزء من مؤتمر المعنى الدولي الثامن الذي عقدته الشبكة الدولية حول المعنى الشخصي.[7] [8]

التعلم كصنع للمعنى

[عدل]

استخدم مصطلح صنع المعنى في علم النفس التربوي البنيوي للإشارة إلى النظرية الشخصية التي يخلقها الناس لمساعدتهم على فهم تأثيرات وعلاقات ومصادر المعرفة في عالمهم.

على سبيل المثال، طور عالم النفس روبرت كيجان إطارًا نظريًا يفترض خمسة مستويات لصنع المعنى؛ يصف كل مستوى طريقة أكثر تقدمًا لفهم التجارب، ويحاول الأشخاص إتقان كل مستوى عند تطورهم نفسيًا. وبالمثل، وفقًا لنظرية التعلم التحويلي في علم الاجتماع والمعلم جاك ميزيروف، فإن البالغين يفسرون معنى تجاربهم من خلال الافتراضات العميقة، عندما يختبرون شيئًا يتناقض مع طريقتهم في التفاوض حول العالم أو يتحدّونه، عليهم أن يمروا بعملية تحويلية لتقييم افتراضاتهم وعمليات صنع المعنى. التجارب التي تجبر الأفراد على الانخراط في هذا التأمل الذاتي النقدي، أو ما يسميه Mezirow «المعضلات المربكة»، يمكن أن تكون أحداثًا مثل الخسارة، أو الصدمة، أو التحولات الحياتية المجهدة أو غيرها من الانقطاعات.[9]

في الفجيعة

[عدل]

مع تجربة الموت، غالبًا ما يوجِد الشخص القدرة على خلق معنى جديد لخسارته. قد تكون التدخلات التي تعزز صنع المعنى مفيدة للمتضررين، حيث تم العثور على بعض التدخلات لتحسين الصحة العقلية والصحة الجسدية. ومع ذلك، وفقا لبعض الباحثين، «بالنسبة لبعض الأفراد من خلفيات محبّة للتحدي، قد لا يكون البحث عن المعنى صحيًا من الناحية النفسية» وذلك عندما يكون المعنى الذي وجده الشخص يُجذّر المشكلة بدلًا من حلها.

يقول بعض الباحثين أن صنع المعنى يمكن أن يساعد الناس على الشعور باضطراب أقل، ويسمح للناس بأن يصبحوا أكثر مرونة في مواجهة الخسارة. على العكس، قد يؤدي الفشل في الوصول لمعنى الموت إلى مزيد من الكرب على المدى الطويل لبعض الناس.[10]

هناك العديد من الاستراتيجيات التي يمكن للناس الاستفادة منها لصنع المعنى؛ تم تلخيص العديد منها في كتاب تقنيات علاج الحزن. طورت إحدى الدراسات «دستور معنى الخسارة» الذي يجمع استراتيجيات صنع المعنى المشتركة في 30 فئة. من بين استراتيجيات صنع المعنى هذه، تشمل أكثر الفئات استخدامًا: النمو الشخصي، الروابط الأسرية، الروحانية، تقييم الحياة، التأثير السلبي، عدم الثبات، تغيير نمط الحياة، التراحم، والتخلص من المعاناة.[11]

الروابط العائلية

[عدل]

الأفراد الذين يستخدمون الروابط العائلية الحالية لصنع المعاني لديهم «تغيير في النظرة و/أو السلوك تجاه أفراد العائلة»، من خلال إستراتيجية صنع المعنى هذه، يخلق الأفراد معنى الخسارة من خلال تفاعلهم مع أفراد العائلة، ويبذلون المزيد من الجهود لقضاء المزيد من الوقت معهم، فعندما يستخدم أفراد الأسرة لإعطاء معنى للفقد، تظهر استراتيجيات أكثر أهمية في نظام الأسرة. وهناك إستراتيجيتان يستخدمهما أفراد الأسرة لمساعدة بعضهم البعض، الأولى تكون بالتكلم عن ذكرياتهم عن المتوفى، والثانية هي التحدث إلى الأفراد الذين لا ينتمون للعائلة حول الخسارة.[12]

عندما يكون أفراد العائلة قادرين على التعبير عن مواقفهم ومعتقداتهم بصراحة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى انسجام أفضل وخلاف أقل في العائلة. كما أن صنع المعنى مع عائلة الشخص يزيد أيضًا من الرضا الزوجي عن طريق الحد من التوتر الأسري، خاصة إذا كان المتوفى هو أحد آخر من أفراد العائلة.[13]

الروحانية والتدين

[عدل]

إن صنع المعنى من خلال الروحانية والتدين أمر مهم لأنه يساعد الأفراد على التأقلم مع فقدانهم، وكذلك تطوير معتقداتهم الروحية أو الدينية، تساعد الروحانية والدين الشخص الحزين على التفكير في ما وراء الواقع، ومشاركة رؤيته للعالم، والشعور بالانتماء إلى المجتمعات ذات المعتقدات المشتركة.[14]

عندما يكون للأفراد ذوي النظرة اللاهوتية للعالم معنى يرونه من خلال الروحانية والتديّن، فإن هؤلاء الأشخاص يعتقدون بأن لعلماء اللاهوت (أو القديسين) حياة صعبة، بالتالي يلجأون لهم لاستدراك معنى الخسارة.

هناك ثلاث طرق رئيسية يمكن للفرد المؤمن بالإله أن يخلق معنى من خلال الدين: إعادة تقييم دينية مطبوعة على حب الخير، إعادة تقييم معاقِبة للإله، وإعادة تقييم قوة الإله.[15]

إن إعادة التقييم الدينية المطبوعة على حب الخير تجعل الله في مكان إيجابي وقد يرى المؤمنون الموت كجزء من خطة الله. وإعادة التقييم المعاقبة للإله تلقي اللوم عليه للفقدان، أو أن سبب الفقدان هو العقاب في الدنيا، وفي حالة إعادة تقييم قوة الله يُطلب منه التدخل في الموقف. تساهم كل هذه التقييمات في قدرة المؤمن على خلق معنى لفقدانه.[16]

هناك إستراتيجية أخرى لصنع المعنى يستخدمها الناس وهي خلق المعنى من خلال تقييم حياتهم الخاصة. قد يحاول الأشخاص الذين يخلقون المعنى بهذه الطريقة الاعتزاز بالحياة التي لديهم، أو محاولة العثور على هدفهم في الحياة، أو تغيير نمط حياتهم.

الإحسان

[عدل]

قد يرى بعض الناس معنى الموت من خلال الخدمات الخيرية مثل الجمعيات الخيرية والمؤسسات والمنظمات. إن صنع المعنى من خلال العمل الخيري يمكن أن يخلق الدعم المالي والدعم الاجتماعي والدعم العاطفي ويساعد على خلق نتائج إيجابية من التجربة السلبية للموت. على سبيل المثال، وصفَ أحد الأزواج الذين فقدوا طفلاً كيف قاموا بتطوير «مشروع نورا» بعد وفاة ابنتهم من ذوي الإعاقة، من أجل المساعدة في توفير الكراسي المتحركة للأطفال ذوي الإعاقة في جميع أنحاء العالم. قالت الأم: «مع مشروع نورا، أنا أيضًا أساعد في الشفاء، حيث أنني قادرة على تحويل شيء مروع، كالطريقة التي ماتت بها، إلى شيء من شأنه أن يصنع الخير في العالم».[17]

فمن الشائع للأفراد أن يرغبوا في خلق أو فعل شيء إيجابي للآخرين كحال هذه الأم. يساعد العمل الخيري الأشخاص على تحقيق معنى من خلال إحياء الحياة بشكل مستمر وبإثارة بينما يساعدون الآخرين في نفس الوقت على تجربة مماثلة.[17]

المراجع

[عدل]
  1. ^ Ignelzi 2000، صفحة 5: "Meaning-making, the process of how individuals make sense of knowledge, experience, relationships, and the self, must be considered in designing college curricular environments supportive of learning and development." Gillies, Neimeyer & Milman 2014، صفحة 208: Through meaning-making, people are "retaining, reaffirming, revising, or replacing elements of their orienting system to develop more nuanced, complex and useful systems".
  2. ^ For example: Postman & Weingartner 1969; Novak 1993; Merriam & Heuer 1996; Rehm 1999; Ignelzi 2000; Kunnen & Bosma 2000; Mortimer & Scott 2003; Wickman 2006; Scott, Mortimer & Aguiar 2006; Nash & Murray 2010; Baxter Magolda & King 2012; Fantozzi 2012
  3. ^ A Google Scholar search for citations of Frankl's work shows that بحث الإنسان عن المعنى is cited by some of the most influential psychologists and psychotherapists of the 20th century; it is cited in آرون بيك's Cognitive Therapy of Depression; ألبرت إليس's New Guide to Rational Living; ريتشارد لازاروس and Susan Folkman's Stress, Appraisal, and Coping; كارل روجرز's Freedom to Learn; and thousands of other texts.
  4. ^ Postman & Weingartner 1969
  5. ^ Postman & Weingartner 1969، صفحة 91
  6. ^ As can be seen in a Google Ngram of the term "meaning-making" in Google Ngram Viewer, usage of the term "meaning-making" in the كتب جوجل database jumps just before 1980 and increases thereafter.
  7. ^ Kegan 1980، صفحة 374; Kegan was referencing Perry 1970
  8. ^ For example: Epting & Neimeyer 1984
  9. ^ "First Congress on the Construction of Personal Meaning: Exploring What Makes Life Worth Living". meaning.ca. مؤرشف من الأصل في 2016-04-07. اطلع عليه بتاريخ 2016-04-07.
  10. ^ Mezirow 2009; Park 2010
  11. ^ Sales, Merrill & Fivush 2013، صفحة 97
  12. ^ Davis, Nolen-Hoeksema & Larson 1998
  13. ^ Gillies, Neimeyer & Milman 2014، صفحات 212–213
  14. ^ Black, Santanello & Rubinstein 2014
  15. ^ Davis, Harasymchuk & Wohl 2012
  16. ^ Way 2013
  17. ^ ا ب Rossetto 2014