نشأ في حي الميدان بدمشق، وربي في حِجْرِ والده في جو عامر بالعلم والورع والتقوى، ثم قرأ القرآن بعد سن التمييز، وعكف بعد ذلك على طلب العلم الشريف بكل جد واجتهاد.
بعد تمييزه بقليل وقراءته القرآن الكريم، قرأ على الشيخ عمر أفندي المجتهد، وعلى الشيخ سعيد الحلبي، وعلى الشيخ عبد الغني السقطي، وعلى العلامة ابن عابدين،[ملحوظة 1] وعلى الشيخ عبد الرحمن الكزبري، وعلى الشيخ حسن البيطار، ولازمه ملازمة تامة، وكان يكثر المديح في حقه، ولما طلب منه الإجازة حضرة السيد سلمان أفندي القادري نقيب بغداد كتب له بها أسماء مشايخه الذين تخرَّج عليهم، ولما ذكر الشيخ حسن البيطار قال: وكان جل انتفاعي به.
أجل مناقبه مساعدتُه للأمير عبد القادر الجزائري في حادثة الستين التي وقعت في سنة 1277هـ الموافق لعام 1860م، وكادت تودي بحياة كثير من نصارى الشام، وكان له كبير الفضل مع الأمير عبد القادر وبعض علماء العصر في إخماد هذه الفتنة.
كان محلَّ ثناءٍ عظيم في حياته وبعد مماته، قال العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار في وصفه:
«بحر علم لا يُدرك غوره، وفلك فضل على قطب المعارف دوره، لم يقنع بالمجاز عن الحقيقة، حتى تبوأ البحبوحة من تلك الحديقة. ولديه من المعلومات ما يشق على القلم حشره، ويتعسر على الألسنة نشره، وتأليفاته التي يحق لرائيها أن ينافس بها ويفاخر، محشوة من الفوائد بما يعقل الأفكار ويقيد الخواطر.»
«وكثيراً ما سمعت الفقيدَ – الشيخ طاهر الجزائري تلميذ الغنيمي – يطريه – أي الغنيمي – ويثني عليه بأنه من العلماء المحققين الواقفين على لباب الشريعة وأسرارها، وأخبرني أنه حينما حضر عنده التلويح للسعد التفتازاني على توضيح التنقيح لصدر الشريعة في أصول الفقه، وجد منه تحقيقاً يُعرب عن غزارة علمه وارتقاء فكره، غير أنه كان يؤثر الخمول على حب الشهرة والظهور، فلا يرغب في المناقشة والتفصح في المجالس الحافلة، ولكنه إذا سئل على انفراد عن عويصات المسائل تجد منه حَلَّالَ المعضلات وكشافَ الأستار عن الأسرار، فلزمه الفقيرُ وتلقى عنه ما تلقى حتى تخرَّج به.»
«له مؤلفات كثيرة: منها شرح عقيدة الطحاوي، ومن النادر وجودها، وبالجملة فإنه كان من جهابذة العلماء المحققين، والفقهاء الورعين المخلصين لا يمل عن الإفادة ولا يستنكف عن الاستفادة، صفاته النصيحة والإرشاد إلى الخلق، وعدم الالتفات إلى ما في أيديهم، له ولع في إعمار المساجد والمعابد، وزيارة المشاهد والمعاهد، وملازمة الأذكار ومخالطة الفقراء والمساكين، تردد إلى الحجاز مراراً وأخذ عن علمائها، وقد أدركتُه وزرتُه مع والدي رحمه الله تعالى في داره.»
«ثم اتصل بعالم عصره الشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي الفقيه الأصولي النظار، وكان واسع المادة في العلوم الإسلامية – أي الشيخ الغنيمي – بعيد النظر، وهو الذي حال بإرشاده في حادثة سنة 1860م بدمشق دون تعدي فتيان المسلمين على جيرانهم المسيحيين في محلته، فأنقذ بجميل وعظه وحسن تأثيره بضعة ألوف من القتل، وكان الشيخ الميداني على جانب عظيم من التقوى والورع يمثل صورة من صور السلف الصالح، فطبع الشيخ طاهر بطابعه، وأنشأه على أصح الأصول العلمية الدينية، وكانت دروسه دروساً صافية المشارب يرمي فيها إلى الرجوع بالشريعة إلى أصولها والأخذ من آدابها بلبابها.»
«كان ذا زهدوتقوى، وعبادة في السر والنجوى، وهمة عالية، ومروءة سامية، ولسان على الذِّكْرِ دائب، وشهرة سارت في المشارق والمغارب، ثم قال: وكان للمترجَم خيراتٌ حسنة ومساعٍ مستحسنة، وقد جدد عمارة الجامع الذي بجانب داره في الميدان في محلة ساحة السخانة بالميدان، وأنشأ له منارة عظيمة، واتسع جاهه، وكثر في الناس ثناؤه، وخالطت هيبته القلوب، ونال أجلَّ مطلوب ومرغوب، إلى غير ذلك.»
توفي رابع ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وتسعين (1298هـ) ولقد صلي عليه في جامع الدقاق بإمامة ولده الفاضل الشيخ إسماعيل، قدّمه للإمامة العلامةُ الفاضل الشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي، وكان لجنازته مشهدٌ قد غصّ له واسعُ الطريق، ودفن في تربة باب الله في أسفل التربة الوسطى من جهة الشرق.
^ذكر الشيخ العلامة أبو اليسر عابدين أن كتب ومؤلفات العلامة ابن عابدين، قد جمع أكثرها العلامة الشيخ عبد الغني الغنيمي بعد وفاة شيخه ابن عابدين، وانتقلت إلى ابنه من بعده الشيخ إسماعيل، ومما يؤسف له أن كثيراً منها قد فقد بسبب حريق أصابها من قبل الإفرنسيين زمن الانتداب.
كتاب: شرح العقيدة الطحاوية المسماة بيان السنة والجماعة، تأليف: عبد الغني الغنيمي الميداني، تحقيق: محمد مطيع الحافظ، محمد رياض المالح، الناشر: دار الفكر - دمشق، دار الفكر المعاصر - بيروت، الطبعة الثالثة:1995م، ترجمة الشارح، ص: 19-24.